مقال رائع بعنوان النَّصيحة / للكاتب الأردني المبدع فتحي الخريشا

صورة ملف ‏فتحي الخريشا‏ الشخصي ، ‏ربما تحتوي الصورة على: ‏شخص واحد‏‏


* النَّصِيحة *
امرأة ذات رقةٍ وجَمَالٍ كانت على مقربةٍ مِنْ آدم وبِصَوتٍ رقيق عذبٍ تسأل قائِلة:
إيهٍ أيّهَا المُعَلِمُ النُّوْرَانِيُّ آدمُ ٱعطنا نصِيْحَة يَسْعَد بِهَا الإنْسَان.
لَكَأنَّمَا تنفسَ آدمُ الوُجُودَ حَيْث أشرفَ عَلى الأرْضِ وعلىٰ أفقِهَا المطلُ على المَجرَاتِ قائِلاً :
إِنَّ السَّعَادَةَ الحَقَّة أَنْ تحيَا في جَوْهَرِ ذاتِكَ عَلَى كُلِّيَّتِكَ إِنْسَانٌ، لَا بِجناحٍ بَلْ بِكُلِّ أَجْنِحتِكِ وبِحَقِّ وجُودِك في قوِيمَةِ المِيزانِ، لَا أَنْ تخْلَعَ جِلْدَكَ عَنْ لَحمِك، ثُمَّ لَحمِكَ عَنْ عَظْمِكَ، ثُمَّ تحمِلَ عَظْمكَ للِطَّاحُونةِ حَتَّى إذ مَا صَارَ دَقِيقاً مَسْحوقا تنثرهُ فِي هُبُوبِ الرِّيحِ العَاتِيَةِ، اِنْسِلَاخا وسَحقا إِنْ هَذا إِلَّا ظُلْمٌ كَبيرٌ وتشْوِيْهٌ قبِيْحٌ، فمَا هَكذا تَكُونُ التَّنْقِية ومَا هَكَذا يكُون الخَلَاص لِلإنْسَانِ إِلَّا إنْ كان يَطلبُ مُخدرًا كمَا المُدمِنُ عَلَى الأَفيون، طريحُ العجزِ فِي نشوةِ الاِسْتِسلَامُ والتَّسْلِيْم لِمْرَضةِ الخبْلةِ على فِراشِ العجزِ، أَفمِنْ بَعْضِ أَلمٍ وأَوجَاعٍ قد اسْتوعْبَتهَا النَّفْسُ إحاطة وتجاوزتها بِحِكْمَةٍ وقُدرَةٍ تهربُ إلى الأُفُقِ في وَلْوَلةِ صرَاخٍ حَامِل خنْجَرَك المَسْمُومَ تطعَن جَسَدَكَ بِشَرَاسَةِ السَّفَاحِ وتنْفُثُ دُخَان مكبَّ النَّفايَاتِ فِي نفْسِكَ، ألآ الحَرِيُّ تتعايش مَعْ جَسدِك بِمَحَبَّةٍ وٱحتِرَامٍ وتطهر نفْسَكَ من الخبائِثِ ومِمَّا يعلق عَليها مِن أدرانٍ، أوليست يدك إذ مَا تلوثت بِوسخٍ تغْسلُهَا بِالمَاءِ والصَّابون أو تفركهَا بالرَّمْلِ والطّينِ لَا أَنْ تقطعهَا وترمِيهَا لِلكلابِ، كذا نفْسَك طهرهَا دون أنْ تجتث مِنهَا الَّذي تقعُ عليهِ بِتطهِيرٍ، فليسَ مِنْ شئٍ فيكَ حِين تصفو فِطرتك إلاّ ولَهُ فائِدةً ولكن مِنْها إِذ حلّ عنهَا العَقَالُ وٱنفلشت تصير عَليك بِشَرٍّ ودَمارٍ مِنْ مثل الذي مِن الشَّهوة المَارقة وحمىٰ الأنانيَّة.
ألآ لك يا أخي في الشّهْوَةِ خير لأَنَّ الشَّهوةَ هي سِرُّ حَيَاةِ جَسَدِكَ ونشوةُ نفْسِكَ لِلحَيَاةِ وفي الحَيَاةِ لك مِنهَا بَهَاءةِ الاِنبِثاق وسَامِق النّمَاءِ، وكذا في الأنانِيَّة حين تكون في قبضتِك المتحكمَة بهَا وحين تكُون عَلى قدَرٍ مقبولٍ تكن لَكَ كالمُحَارِبِ القّوِيِّ تحمِيكَ إّذ مَا فُتحت عَليكَ حَربٌ وشُن عَليْكَ قِتالٌ، إِنَّهَا تصيرُ الحَارِس الأمِين لِتحميك وَسط الأطماعِ وتدفق الظَّلام، وإذ مَا كنت في البرِيّة وخرج لكَ قاتلٌ رَجِيمٌ يريدُ أنْ يسلبك حياتك أوّلا ثُمَّ مَا في حوزتكَ أفتُسلمُ لَهُ حياتكَ وأنت قادرٌ عَلَى الدَّفاع عن نفسِك، حَتَّى إِذ مَا اضْطررتَ آخر المطاف أن تصير أنت قاتلهُ أولست تفعل، فإنْ لنْ تفعل فكُلُّ عاقلٍ حرٍّ يفعل، فمَا مِنْ شئٍ في نفسِك لِنزاعةٍ عَلى هَوَىٰ غربالِهَا بَلْ الحَريُّ لِمِيزانِ عدلٍ وقدرةِ سيطرة، فلا تنسلِخُوا أحبّتي مِنْ إرادةِ أَنفسِكُمْ فمَنْ يَفعل ذلك أولئِك هُمُ الحَمْقى وأولئك هُم العاجزُون، وإنَّمَا كونُوا أنتُم فيهَا بِالمَحبّةِ والعدلِ القوَّامُون.
إِنَّ السَّعَادَةَ الفائِقهُ أَنْ تحْيَا أَنْتَ عَلَى كٌلَّيَّتك إِنسان، فٱحبِبْ شَهَواتكَ عَلَى قدَرٍ وتجَاوَزْ الحُرقة في البُؤْسِ وكُنْ حَكِيمًا فِي غُمُوضِ الأُفُقِ كمَا أَنْتَ حَكِيمٌ الحرِيُّ وعارِفٌ بِكَثِرٍ مِنْ أسَرَارِ الحَيَاةِ، تخطَىٰ الألم بِبلسمِ التَّقبلِ وارضَىٰ بِمَوْتِك وَلَا تكُنْ قلِقاً بِإسْرَافٍ أَو توترٍ عَلَى أَيِّ شَئٍ فِي هَذا الوُجُودِ ولا تذهب ذهبان الَّذين يَذهبُون في الفلكِ المغلقِ تكن مِن الجُهَالِ، أولئك الَّذين عَلَى يَقين إلهٍ وفي حوطةِ دِينٍ أو عَلى تكرار الوِلادةِ أو في تعصبِ النّكران كُلٌّ مِنْهُمْ عَلَى الظّنِ وكُلٌّ مِنْهُمْ بِغيرِ حَقِّ بُرهَانٍ، ولكن كُن شجاعًا وصَاحبَ أملٍ نيِّرٍ وَلَا تخضع لِلضَّعفِ ولَا تقلب الخوفَ إلى جبنٍ، لأنَّ الجبنَ دخيلٌ عَلَى النَّفسِ لَيْسَ مِنْ أصِلهَا ذلكُمْ حِين الخوف يضطربُ ويزيغُ فتصير كَمَا الدُّخانُ عَلَى النَّارِ إذ الدُّخانُ لّيْسَ مِنْ أصلِ طِبيعةِ النَّارٍ، وإِيَّاك يَا أخي أَنْ تشطحَ بِكَ الأمَانِي لتصير أنتّ عَلَى غير حقيقتِكَ فَلَا تحصدُ إلَّا الخُسْرانُ، فمَا أسفٌ إلَّا عَلَى أُناسٍ نصَّبُوا فوقَ رُؤوسِهمْ جَاهِلا لئِمًا بِأكاليلِ الحِكمَةِ وَمَا هُوَ إلاَّ حاقد عَليهم وجَهُول إذ اجْتِثَاثاً يِجَتثُهُمْ مِنْ الجذورِ ليصيروا في قبضةِ الاِنْقِلابِ لِلخواءِ وهُمْ أحياءٌ مَا يزالون، فالضَّآلة المَنشُودة أنْ لا تفقد الأمل في مَا تحدس عَلَى الاِتَّزانِ والظّنِ وإلى ممكن مَا تريد أن يصير لك حَقّا وَاقعا عَلَى الوُجُودِ، ولا تطلب انْعِدام الخوف لأنَّ الخوفَ يحرسُك منْ كثيرٍ من الشُّرورِ وإِنْ كَان ضمن مقدارِهِ في قبضةِ السَّيطرةِ ودون ٱضْطِراب فهُو بوصلة لك وحَارسٌ أمين، الحرِيُّ أَنْ تتقبل تناقضات نفسك وأنت عليهَا الحاكمُ القَّوِيُّ والعَادِلُ الرًّحِيمُ، فٱعدِلْ وٱرْحَمْ تكُن في دُرُبِ الهدايةِ وتكن أنت المُهتدِي كمَا أنتَ هَادِيٌ وُجُودَك إلى الصّرَاطِ الإِنْسِيِّ المُستقِيمِ.
صمت آدم قليلا ثم آردف قائلا :
ألآ لا يَستوي مُستنيرٌ بِحَقِّ الاِسْتِنارَةِ عَلَى دَرَبِ الإنْسِيَّةِ المُضيءِ وضَآلٌ عن حَقِّ الميزانِ يَتخَبَّطُ في الظُّلمَاتِ.
ألآ كُنْ شَفُوقا عَلَى ضَعْفِكَ لِترعاهُ نحو القُوَّةِ، ولا تلعنهُ مُنْقلبٌ فِيهِ لاِسْتِسلامٍ، ولكِن حِين لَا قدرة لك عَلَى ضعفٍ مَا فالحريُّ لتنجو مِن براثنهِ إنْ كان لَهُ من بَرثنٍ أو مخلبٍ أنْ تتقبلهُ لِمحاكاةِ تصالحٍ لتحلّ عَليك الطُّمَانِينةُ وبَهَذا يكُون لكَ البلسمُ ويكُون لك عَليهِ الاِنتِصَار، وحاشاك مِن العجْزِ النَّفسِيِّ والرُّضُوخِ على مُتكأ القهرِ ومن قعدةِ الإرادةِ والطوباءُ لِلفُطناءِ.
ومِنكُم مَن يُرِيدُ طُقُوسًا ومَحافِلاً لمِعتقدِ الإنِسْيَّةِ وهَل الكون بِكُلِّ مَا فيهِ إلاّ محفلا لكُمْ، كذا كُل مَا في الطّبِيعةِ مِنْ جَمَالٍ هُوَ مَحفلٌ لكُم، وكُلُّ مَا في التَّأمّلِ مِن عَوَالمِ الحَرِيُّ كذلك لكم محفلا، وهَل هَذِه الحَيَاة التي تحيونها إلَّا محفلا أكيدا لكُمْ لَمَا تصير لكُم في المّحّبَّةِ وكمَال الأُلفةِ ولمَّا تتنفسُوهَا بِصدرٍ مَلِيءٍ بِالحُبُورِ أمَام فضَائِلِ النُّورِ، ولكن حسناً أَقِيمُوا على الأرضِ جنَّتكُمْ تَكُن لكُم خَيْر مَحْفَلٍ فِيهَا تترعرع قيمُ مُثلِكم العُليا وفيهَا كُلَّ مَا تحتاجُون، ولِمَنْ شَاءَ فشيدُوا مَسَارِحَ الإِنسانِ بالمحَّبَةِ والفرحِ فيها تحتفِلُون، وٱقيموا أبنية فيها الإنْسَانُ على عرشِ مقامِهِ ولا تُسَبِحُوا إلَّا ذاتكم العُليا إذ كُلٌّ يسبح ذاتهُ هُو بِتسابِيحٍ فائِقةِ الحُسَّان، فمَا مِن تعاسةِ عُبُودةٍ البتَّة عَلَى أحدٍ إنْ كان هُوَ الحرُّ إذ حَرِيٌّ كمَا في البَرانِيَّةِ محفل مَسرتِهِ كذلك محفلُ حبورِهِ المَجيدِ في جُوَّانِيَّتهِ فِيهِ حيث وَاعيتهُ في الضَّمِير يُقيم.
أَلآ لَيْس بِالعَسِيرِ أن أُنبئُكُمُ الَّذي أَرىٰ ببصيرةٍ وأسْمِعُكُمْ مَا سَمِعْتُ الأذن الباطنِيَّة لأَنَّ الحَقَّ حين يطلب يكُون واضِحًا وجَليّا وعَاريًا فِي الضِّيَاءِ، ومَا خلا ذلك تجديفٌ وتسويفٌ وخيالاتٌ في ظَلْمَةٍ وأُمنياتٌ فوق سَرابٍ وشطحاتٌ في خبلةِ الجُنُونٍ وتهيُّئاتُ آمالٍ مريضةٍ تهذي في حُمَّىٰ الرَّغباتِ، لأنَّ الأمثل فالأمثل أنْ ترَىٰ كُلَّ أمرِك في الضِّيَاءِ وتعرض ظهرانِيّا عمَّا يَمورُ كالأشباحِ في حَالكِ الظَّلماتِ ولا تنهلْ غير معلومٍ لَا يُعلم لِمعلومٍ صريحٍ لِألّا تكن كمَنْ يَسكبُ السَّمَّ في العَسَلِ ويُلقي عَلَى النّورِ ظَلَامًا، فالإيْمَانُ حين هُوَ في النَّقاءِ وفي الضَّياءٍ قائِمٌ فأبدأ لَنْ يتزعزع إِنَّمَا الأبلجُ الوضحُ هُوَ الّذي يَثبت، لأنّ الحاسة إنْ أَرتك بَعْضًا مِن حقيقةٍ إنَّمَا تركت عقلك ليعمل النَّظر حتَّىٰ إِذ مَا ٱستوثقتَ مِن حقيقةٍ وَقعَتَ على كُلِّيّتِهَا كَمَا وَقعتْ مِنْ قبلٍ عَلَى جزءٍ مِنها لتثبتهَا عيان حقيقةٍ من حقائِقِكَ صرت على دربِ ضِيَاءِ النَّظرِ بلا لفائِفِ ظلامٍ، إِنَّمَا كان أكثرُ النَّاسِ مِن ظاهِرٍ قِشريٍّ على كُلِّيَّةِ الفهْمِ يُجدفُونَ.
إنَّ السَّعادة الفائِقةُ أَنْ تحيَا في بُلجة كُلِّيتَّك عَلى حَقِّ التَّوازنِ فِي الإِنْسِيَّةِ ٱلإِنْسَانُ الكامِلُ النّوْرَانِيّ.
من كتاب الإنسان الكامل النوراني
لمؤلفه المهندس أبو أكبر فتحي الخريشا ( آدم )

تعليقات

  1. رائع ... أبدعت النشر

    ردحذف
  2. ررائعة كلام مليء بالحكمة والأناقة تحياتي لك جعلت الحروف أكثر جمالا

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصيدة بعنوان حبّك يكبر / للشاعر جعفر الخطاط

قصيدة بعنوان رسالة الأميرة / للشاعرة مريم كباش

قصيدة بعنوان لا تطرق الباب / للشاعر منهل الملاح